صغير اليمامة
إلى
صغير اليمامة مصطفى سيد أحمد:
عامًا آخر ينجلي، والأحزان لا تزال متأصلة تخوم الروح. المدينة جريحة تبكي أبناءها، تمزقت أطرافها، الأُغنيات تنحسر مِنْ أضيق الطُرق، الفاجعة حدثُ ثابت حدّ الاعتياد والبلاد تضيق وتتقرفص على ذاتها، تنكمش أكثر فأكثر وكُل شيءٍ يختنق.
الغياب والرحيل منقصات للمسرات المعلقة على سحاب الأُمنيات. لا شيء يكتمل يا عزيزي.
أما بعد؛
أشكو إليك البلاد مِنْ بعدك يا مصطفى، أشكو الضيق والوهن الذي أختلط بالهواء، بالتُراب وبنا. أشكو شُح البركة، لم تعد الأرض تتجود علينا كما مضى، بات خيرها لغيرها يا مُصطفى. تكالب القلة على منابعها، حرفوا جريانها، فجهلت مصبي. هل مصير هذه البلاد أنْ تعيش في ما مضى، بحيث يصبح حاضرها قيدًا يمنع الوصول إلى الغد المرجو؟ هل كتبنا على أنفسنا المعاناة عندما حصرنا النعيم في الماضي ومقتنا الحاضر؟
لكأنك انت الذي قلت: كتير بنعاتب الحاضر ولا أسفًا على الماضي؟
هل بالضرورة أنْ تموت أرواحنا ألف مرة إلى أن يصير بإمكاننا أن نعيش هذا اليوم دون الركون إلى سابق الأيام أو القلق على الاتي؟ لقد تغذى القلق على قلوبنا يا مصطفى، الدماء في كل مكان.
تُوغل البلاد أكثر فأكثر في نفقٍ موحش مِنْ الخراب والفوضى، لا آثر لتلك النهاية التي تلوح لنا، لا أثر للخواتيم السعيدة. الألم يكتنف كل الصدور، الدمع غشاوة تُعمي البصيرة والقلب، الضباب يلتحف الحقائق، إلى أن صار مجرد ذكرها مصيبة.
تنكر الساسة على أهاليهم، قتلوا أبناءهم، استباحوا الدماء والنساء، يتموا الأطفال، ثكلوا الأُمهات، أحرقوا صدر الأرض ووضعوا مصالحهم فوق ظهور الترابلة دون الركون إلى مآلات ذلك، البلاد تحبو فوق الأشواك ولا مناص.
لكن؛
أهكذا توردُ الأبل يا مُصطفى؟ أليس مِنْ الأجدى أنْ ينفع الأخ أخاه؟ أليس مِنْ الأفضل أن نضع اختلافاتنا جانبًا ونتطلع إلى هذا الوطن المشرئب عبر جدار التاريخ، أما آنْ له أن يرى النور؟ ألا يستحق منا العناء حقًا؟
الكثير مِنْ الأسئلة تساور خاطر هذه الأرض، ولا إجابة.
ما تزال الحبيبات حافظات للوصية يا مُصطفى، هم على ذات الخفر الشهي، والأمل الكبير أن الفرح يومًا سيملئ المدينة والبلودات الحزينة. لكن العسكر ثقبوا جُلباب الأمل هذا، أحرقوا قلوبهم، أخذوا أبناءهم، جرحوا جلد الطمأنينة وزرعوا الخوف في أحشائهم.
أولست أنت الذي قلت: ما تتخوفي؟
لا أخفيك سرًا أن صدري قد فاض فخرًا، أبناءك السُمر يا مُصطفى يسطرون تاريخًا يحفل بالبسالة والتضحية. يضربون بكل الثورات والبطولات عرض الحائط، يكتبون في صفحات الأيام أساطير تحتفي بها وتتوارثها الأجيال القادمة مِنْ رحم المعاناة. لقد كتبوا الشعر مقفى برائحة البلاد، رسموا على جداران العالم صورًا خالدة عامرة بالمعاني، رقصوا فوق الجمر، نحتوا طُرقات جديدة مليئة بالأماني السندسية، أغلقوا متاريس الحريق وعرفوا متين يبقوا المطر، وفهموا متين يصبحوا الحريق. وقفوا في قلب الطريق، شهقوا طيب الوطن وغنوا للحرية ملئ حناجرهم:
"غنيناك وبنغني
نتحدى الزمن فنان"
أخبرني رجاءً كيف ليّ أنْ أنسى تلك الوجوه الباسمة، المفعمة بالحياة، تزفها أيادي نزقة إلى مرقدها الأخير؟ كيف لي أنْ أنسى الظلام الذي هبط على ملامحهم اليانعة؟ كيف ليّ أن أنسى مساحات الأسى الفي عيونهم؟ كيف ليّ أن أتقن النسيان، أوليس في النسيان خيانةٌ للوجع؟ لقد أصبح الكُل جنائز مؤجلة في إنتظار رصاصة الخلاص.
تمنيتُ كثيرًا أنْ أكتب إليك في سنون مخصبة، سنون مرهفة، صادقة وآمنه. تمنيتُ أن أصور ليك حال أبناءك وهم يتسامرون في الممشى العريض تحت المطر، يخبئوا مناديل الوصول في جيوب أمالهم، ثم يتوسدون طمأنينة أن الحلم يصبح حقيقة. هكذا تمنيت وهكذا أرجو، إلا أنْ الحقيقة خنجرُ مسمومُ في خصر الأحلام والأمنيات. يساورني القنوط كثيرًا، تتلاففنني الهواجس، تتملص مِنْ المتون ولا هامش يتقبلني، أنا على الهاوية. كثيرًا ما أجلس واجمًا على أطلال الذكرى أحصى الخيبات، أنبش جراحًا لم تدمل، أقتربُ مِنْ التلاشي، ليأتي أخيرًا صوتك صادحًا يخترق كل الجهات: الأمل يصبح رفيق. وبما أنك توعدت أن الأمل سيصبح رفيق، لن أخاف المُضي، لن تنطفئ جمرة الإنسانية مِنْ قلوبنا يا مصطفى، لن ينتهي هذا الحريق لأنهُ وببساطة جوانا نارك والمطر.
لا أعلم ما إذا كان الأمر يستحق كُل هذا التعقيد، ما تكلفة أنْ نحيا حياة كريمة لا ظلم فيها ولا جور، أنْ نأكل حلالًا طيبًا، أن نتمشى عند المغيب على صوت العصافير يغطي مسامعنا، أنْ نتكئ على الأسرة نلتحف الطمأنينة وأنْ ننام دون الحاجة للتساؤل دائمًا:
متين جرح البلد يشفى
ومتين تضحك سماء –السودان– الخرطوم
حبيبتنا ومتين تصفى؟
نسأل ونحن لا ندري لمنْ نسلم مفاتيح السؤال:
جيل الشمس موكب حريق
واقف على باب الدخول
بيناتو بينات الوصول
لحظة شهيق
لحظة شهيق!
Comments
Post a Comment