رؤية

- لوسي ما الأمر؟
- لا شيء فرانك، أنا بخير
- حسناً، كما إتفقنا عند المحطة الساعة الخامسة 
- سأكون في الموعد
- وداعاً
- الوداع
فرغت مِن توضيب غرفتها، رتبت فراشها، واستلقت في مُنتصف السرير تُبحلق إلى السقف، نظرة مُتبلدة، خاوية، نحو الصورة المعلقة، ليس بالأمر المهم، سأنسى الليلة العابرة كما يأخذ الطوفان بيوت القش، نَحن أصدقاء، لم نخطط فعلياً لما جرى، هو لا يفكر في شيء مِن هذا القبيل، ما حدث كان مُصادفة، حقاً؟! هل كان قضاء اليوم مع فرانك فكرة غير سديدة؟ لا يمكن للمرء إرتكاب حماقات يوم الثلاثاء.
تُأنب نفسها، تندب حظها العاثر، لا يُمكن للأمور أن تُصبح أكثر سوءً، لا يُحبي، أخبرني بذلك عِدة مرات، لكن ما حدث البارحة؟ خطوط أنامله على رقبتي، نظرته المملوءة بالشغف، كلماته العميقة، إقترابه الشديد مني، حد الإلتصاق، الإنسجام العفوي الذي نشأ بيننا، لم يَكُن شيئاً وليّد اللحظة، إنما هو نِتاج شعورٍ قديم، لقاء علق في أذهاننا، لم يَكتمل، ولن يكتمل بوجودنا، أو بعدمه، حلقة اللاشئ، اللانهاية، متى تنتهي متى يا إلهي؟.
بإستطاعتي النسيان، أنا قادرة على ذلك، بارعة في التَخطي، لكن آثار الليلة السابقة عالقة على جسدها المشع بالحُب، لن تَختفي، ولن يَخفت أبداً، تِلك الوشوم التى تَنبتُ فوق أجساد العُشاق، لتَدل على تمييزهم، تفردهم، وعذابها الذي لم ينتهى، ولن ينتهي.
اللقاء سيزيد الأمر تَعقيداً، ماذا سأقول عندما أراه؟ الكثير مِن الحديث يدور بداخلي، وكأن الكلمات لا تَعرف طريقها إلى فمي!! لما قال لي أن شفتاي ترتجف مثل قلبه وأن عليه أن يضمها ليرتاح كِلينا؟ لما سمحتُ له بأن يضمها؟ لكنني لا أشعر بالإرتياح، الخوف، الخوف الشديد، والعجز هو ما أشعر به، تَطلبه حتى أصغرُ الخلايا في دمي، وكأنما كان جزءً من جَسدي تم بتره، لا أنفك سوى التفكير فيه.
لما قبلت دعوته للذهاب إلى السينما؟ ، حتى أنني لا أُحب الأفلام!! ربما لأن صوته الدافئ فيه شيء من السحر ألقاه على مسامعي، فلنتفرض أنه صحيح، ما بال نظراتي تراقبه جيئة وذهابا؟. 
خرجت من البيت مسرعة، متوجهة نحو المحطة وسط المدينة، والتى تَبعد عن السينما مَسافة حُبٍ واحدة إذا ما وجدتَ رفيقاً، حتى المسافة يُمكن أن تُطوى مع الشخص الصحيح، شخص يقاسمك الطريق، سَلكت الشارع الموازي لسكة القطار، عبرت سوق الخُضار الذي بدا مُزدحماً، أو لأنها كان في عجلة من أمرها، تابعت طريقها نحو مُنحدراً، يقبع في أسفله سوق الأدوات المستعملة، الشمس تأبى الغروب، كأنها في إنتظار شئ ما.
وصلت المحطة متأخرة بنصف ساعة، تعرضت للسرقة وهي تَعبر الشارع الذي يقودها إلى المحطة، إنهمكت في البحث عن السارق وسط حشود الناس المتدافعة نَحو محطة قطار الأنفاق، المارة العابسون، المتعبون، ثُلةُ يلتقطون الصور، السائحون الحمقى، ما الجمال الملفت في بناءٍ شاهق لونه رمادي كئيب؟ لكن الرمادي لونها المفضل، كل ما ترتديه باللون الرمادي، وجه الإختلاف بينها وبين البناية الكئيبة، هو أنها نافرة، موجة محيطٍ عالية مِن الحُزن، الحُزن والحَسرة، تَمنت لو أنها تركت حقيبتها، وركضت إلى المحطة، بدلاً من الجري خلف السارق، كفرس الرهان، كم كانت سريعة في عدوها، لكنها بطيئة في اللحاق بقدرها، جيوش الحُزن المُتدافعة، بدأت بالخروج من مُدن عينيها، تَقرصفت كالطفل الصغير، تَنشُد أهازيجاً مِن البكاء المتناغم، تتعالى صرخاتها، وتختفي وسط الإزدحام، تَدفن رأسها بين زراعيها، تُغمض عيناها، الضجيج في رأسها يفقدها تركيزها، تدفع رأسها إلى الحائط، مرة، مرةً أُخرى، ومراتٍ لا تحصى، لم تلقي بالاً للكم الهائل مِن الألم الذي تتسبب به لنفسها، ولا لمحاولة أحدهم كسر الباب، بعدما فشلت جهوده في طرقه بقوة، لترى أمامها والدتها التي تُمسك بيدها وتحتضن ما تبقى مِن جسدها المشرب بالعَرق، أختها الصغيرة، وظِل شخصٍ آخر مرتعداً عِند الباب.
- هدئي من روعكِ صَغيرتي
- ماذا تَفعلون جميعاً داخِل غُرفتي؟
- لقد كنت تَصرخين بصوتٍ عالٍ، وتضربين رأسكِ بالجدار
- وفرانك ماذا تَفعل هُنا ؟
- جئت لأتاكد أنكِ بخير، تأخرتِ في المجئ إلى المحطة نِصفُ ساعة .
- أكان مِن المفترض أن نلتقي اليوم ؟
- نَعم، هل أنتِ بخير ؟
- نَعم بخير إنه مُجرد حُلمٍ عابر لموعدٍ مُتَرقب.

Comments

Post a Comment

Popular Posts