يوليو شهرُ الغياب
السلامُ عليكِ يا مَنْ تملكين السلام داخل بؤرة عيناكِ الواسعة كجُلبابِ المحبة.
أما بعد؛
أشتقتُ إليكِ، هكذا فقط دون أن أشرح أسباب شوقي لكِ؛ لأن الأسباب منقصةُ لملكوت الشوق. الأيام تستلذُ الإساءة إليَّ، تستغل ضعفي بدونك وتمزق أطرافي، تحاكي شكل وجهك في كُل الأشياء مِنْ حولي، تتعمد أن تطول جميع الليالي التي يهرب مِني النوم فيها، تعتصرُ خَمارة خيالي لأراكِ فراشةً تغفو على سحابِ الشعر كقافية إستعصى عليّ أن أسبر غورها أو أن أسرج خيول حروفها قصيدةً خجولة تنكسرُ طائعة أمام سطوة لُدنة جسدك الأسطوري كآلهة مِنْ مملكة كوش.
فقدتُكِ على غفلة لتبدأ بعدك الأشياء بالتساقط بنشاط، لكأنها كانت تتماسكُ مِنْ أجلك فقط، وعندما رحلتِ تلتحفين صفحة السماء على شعركِ زُرقةً وسوادا، تبعثرت مِني الأشياء على طول الطريق، كشجرة اللبخ العملاقة تتخلى عن أبناءها وتهديهم قربانًا للنيل العظيم كتقليدٍ أزلي في مواسم الرحيل.
لما تبدين حزينة يا بَعضي؟ هل أصاب الجدبُ نضارة أطرافكِ اليانعة؟ لما تبدين شاحبة مشوشة كأنكِ تقفين مودعة خلف زجاج حافلة سَفركِ البعيد؟
كعادتكِ السيئة تتظاهرين بالسعادة، ترسمين أجمل الحدائق على صفحة وجهكِ وكُل حرائق الكون تنتصف خافقكِ، الإرتباك يطلي بلون الملح على جروح جدرانكِ المشوبة بالخوف يخفتُ نوركِ كأنكِ عرجونُ قديم، لكن سرعان ما يكتمل وجهكِ بإبتسامة واسعة وتعودين بدر تمام.
تكفيني فكرة أنكِ موجودة في هذا العالم، ويواسيني أنكِ تحتضنين طفلًا يحبو وتنهضين مِنْ عُمقِ الجراحِ بلسمًا يطيبُ الألآم.
لا أظن أنكِ تحتسين القهوة أيام الأحد، أنا أيضًا تركتها، في الماضي كُنت اتعلل بعدم شربها، وأنتِ تعلمين سِر كرهي لها، وكذلك تعلمين السر في بداية ممارستي شرب القهوة، لكني الأن بتُ أجلسُ جل يومي متوجسًا كمن يطأ جمرة، أنتظر هدوء الكون حولي، ثم أتسلل إليكِ في شبقٍ لذيذ استنشقُ القهوة وأحتسي حديث ذكرياتي معكِ؛ لكني فجأة توقفتُ عن ذلك، أقلعتُ عن خمر الخندق الذي يلتفُ حول فاهِك كما يلتفُ الخاتم على الإصبع، صحوتُ عليلًا مِنْ سُكر مجلسكِ، كأنما هنالك قوة خفية تسحب بساطكِ مِنْ تحت روحي المهترئة.
الإثنين يمر ثقيلًا كعادتهِ يا وديعة الطرف، يجثم على جسدي كوحش النوم، يثبتُ أطرافي، يصبغُ روحي بالخواء؛ حتى أُصبحتُ مثل المُدن الفاضلة في زمان التظاهر لا يأتيها الضوء إلا لِمامًا ولا صوت يتردد سوى وقع خطواتِك المترددة بعيدًا في مكانٍ ما عبر شوارع عقلي الضيقة.
يوليو يا عزيزتي شهرُ الغياب، منذ أن وطئت أيامهُ الحُبلى بالتوجس أرصفتي؛ حتى أصابني الهلع، ليركض إثر ذلك قلبي حافي القدمين على دوائر الهزائم الحادة التي خلفها رحيلُكِ المفاجئ، ليكتشف متأخرًا أنْ خانة مِيلادكِ حذفت عمدًا من تقويم حِملهِ بمحبتنا التي أمطر بها الأخرين وتركنا نحنُ وقلبي ضائعين، مبللين بمطر الغياب.
لا أحمل في جراب ذكرياتي لكِ سوى صورتكِ وأنتِ تضربين بِمعول الخندق المِعوج أرضي الجدباء، أحلتها جنةً فينانهٌ، ثم بسرعة قبلةٍ دافئة على خد وليّد تداعت هاماتها وسقطت خلف خطواتِك المبتورة إلى وجهةٍ لا تتحملُ كلانا على ذات الطريق.
لكم أرغب بشدة يا عزيزتي أن أتمنى لكِ أعوامًا سعيدة تحتفي بها جميع رايات مملكتي؛ لكنما تمردت جيوش عشقكِ في وسط المعركة وتركتني وحيدًا، هائمًا، محبوسًا اتحسرُ على الخندق الذي شهد كُل إنتصاراتي.
يوليو حيثُ ابتدأ كُل شيء وتداعى، لستُ نادمًا على شيء، أبوء لكِ بكُل فتوحات قلبي ومنهزمًا أهنئكِ بعيدِ ميلادكِ ورحيلكِ الخجول عن أسواري.
لا أكتبُ لقمر العيون الذي أضاء منارة حياتي ثم أفَّل، أكتبُ لشمسِ ذكراكِ التي تكشف سوءتي إليكِ ولا ملجأ.
الثامن والعشرون مِنْ يوليو عام إنتصاراتي وهزائمي في آنٍ.
Comments
Post a Comment