خيوط الموسيقى

خيوط الموسيقى العذبة تنهمر بنعومة مُطلقة، تجذُب إنتباهك بحِرفة لتُكمل بقية النوتة طائعاً، لكنك وقعت في المصيدة ولا مجال للعودة!

ما إن تنصهر روحك مع رهافة العود، حتى يُغني بحسرة عامرة تجرُفك خلفها على وقع :
"لو مِني مُستني الملام"

لتجلس الأكوان وتنتظر الرد على سؤالٍ طرحهُ هو نفسهُ على ذاتِه الغارقة في أحزانها، التي قريباً ما ستجرّك بفيضان المشاعر المُتدفقة، وراء صوتٍ أرهقه الخوف، ونهشت نوائب الدهر ريقه اليانِع، ويأسرك لتُكمِل بتعجب :
"يا سَلام عليّك"

كأنما ينوي أن يُعيّب عليها، لكنهُ سُرعان ما يعود مخاطباً :
"يا حِلو"

ليُدخِلك كهف التناقُض، ويُذهل –ما تبقى لك مِن عقل– بِما فيها مِن ضروب الخيال، التي تُشعل قلوب العُشاق، وتُقظ كُل تصاوير الحُب مِن على الدفاتر الصامتة .
"السكوت مرات مَلام"

ينجح في التلاعب بك، لتظُن أن أخيراً أنهُ سيُلقي اللوم، لكن هيهات، يُباغت ظنك دون أن يشهق قائلاً :
"عدم الملام هو كمان ملام"

ليسمح للحيرة أن تلُف حواسك، وهو يقول بصوتٍ مُنهزم أنْ ستهرم إنتظار ما يساوره من شعور، يعود سريعاُ ويتعجب مرةً أُخرى قائلاً بتواترٍ يرتفع مع صوتٍ أوتار الحياة خلفهُ :
"يا سَلام عليّك"

يضعُ بخفه حِسك على نَغمِ بطئ يتسارع شيئاً فشيئاً، لتلتقط الطُعم راضخاً لإرادة أنامله التي أهلكها التَعب.

ثُم ما إن تستكين لبلادة الشعور حتى يتمادى ليعبث بأوصال النِيَّاط برفق، ويُشجي القلب ويُرهقهُ، بفاصِل من الهزيمة العبقرية، التي تضعُك في بحور مِن ضروبٍ الخيال.

ما إن يلتحِفُك الإحباط لبرهة، حتى يصرخ مُستغيثاً أعالي الجِنان بعد فاصلٍ مِن الطرب الحزين وبحتيّن مُتلاحقتين يستجمعُ فيها رباط جأشه :
"أنا يا غرامي وصلت بيك"

يؤثر على نَفسه العطرة أن يوضع فيها العِتاب مُخاطباً الحَبيّبة :
بِ "يا غَرامي"
ويُندد بِ : "وِصلت بيّك"

ليؤكد أنه مِن المستحيّل أن يخطو شبراً واحِداً مِن دونِها مُزلاً جميع الأمكِنة :
"في الدُنيا لي حدّ الغرام"

ليُنزل بها سِتار مَسرحية العشق الأخيرة على الكون أجمع، وبدموعٍ مُستتره سِجالاً بيّن "يا غرامِي" و "حدّ الغرام".

كما اعتبر أن الملام أمام عينيها لا أساس له مِن الصِحة صادِحاً :
"لقيت ملامي على عينيك"

ليكون بذلك تواضع رافعاً قُبعتهُ كاشفاً السِتار مِن على جسده العاري منها، كما ناداها في وسط بُكاءهِ ذاك :
"يا سِيّدي".

ثُم يعود إلى تعجُبه مجدداً :
"يا سَلام عليك"

يُلاحقه بُكاء خفيف، ينجح في إخفاؤه سريعاً بصوت العود الحزين ليُحيك به ألوان البهجة المُزيفة على مسامع العاشِق المسكين.

فُتات القلب الدامي يتباين في الإيقاع الذى بات يندفع بوحشية، تُخمده اللوعة التي تُصاحب صوتهُ الشجّي :
"الوردة لو فاتا الفراش ما اظن تلومو مع الندى"

ليختَزل المُصطفى السيّد أحمد فيها كُل أحاسيس الشجن والوفاء، مِن رحِم خُلده الواسع رُغم وفرة الحُزن، وقِله الحيلة، ليسمح لأوتار العود المغلوب على أمرها أن تتراقص مع لحن النحيّب والنواء الصَرف.

لو أنك استمعت الاُغنية لأول وهلة، أو لنَقُل أن غمرتك المشاعر وأنت تُرهف مسامِعك إلى صوتهُ الندى –صغيّر اليمامة– يتباكى بنغمٍ عذبٍ على صِراط العود الذي دائماً ما يوقع العُشاق في جحيم الحَنيّن، لوجدت الأمر غريباً أن يقول :
"ما بتجرح إحساسو الجميل"

واصفاً إياها في البدء بِ "الفراش" ويضع نَفسهُ مكان "الوردة" الضعيفة التي مرت فوقها أسراب الفراش دون أن يلتحِمان سوياً في رِحاب رحيق الندى :
"ما أظن تلومو مع الندى"

ليقول بصريح العِبارة أن الوردة لن تضع المَلام على الفراش بسبب "الندى" آي الظروف، واضعاً في عيّن الاعتبار الإحساس الجميل للفراش كما وصفهُ سابقاً.

مؤكداً أنه لا يطمح إلى الملام مهما كانت الظروف، ويلتمس العُزر رُغم كُل شيء، متغاضياً تماماً عن فِكرة اللوم، الذي بدأ به الخطاب المخطوط بالدموع.

لبس أعواماً مِن التعب، والحيّرة، عاد منها حزيناً ولكن بحُجةً أكثر قوة وبقلبٍ حاسِر أن :
"الريدة يا حنيّن كدا"

تاركاً الفضاء للجُملة والمشاعِر تُسهِب عن نَفسها وهو يجمعُ أطرافهُ حياءً وحَسرة. تُرافقها همهمات الهزيمة التي تتلاشى شيئاً فشيئاً، لتبقى آثارها وصمة على ملامِحهِ الغارقة في المآسي.

ما إن يلتفحُك زمهرير اللامكان الذي وضعك فيه دون أن تَشعُر، حتى يعود ويغازل فاتِراً بطرفٍ أكحل وأنامِل ملئ بالطباشيّر، القطن، والحُب على جسد المراءة التي نحتها مَريّدُ أصابتهُ لعنه الاشتياق يوماً.

ليختتم بتعجبُ مُشرب بالحُزن الشديد :
"يا سَلام عليّك يا سَلام"
المُرافعة التي دخلها مهزوماً وخرج مِنها أشد إنهزاماً.

Comments

Popular Posts