كانون الثاني
_ عادت مُسرعة تُجرجر خيوط الحُزن، تنسَّلُ بقوة، لتُسبب تقيُّح الجُرح أكثّر كُلما إبتعدت، توجهت بخوفها صوب الوسادة، تكومت كالحَنيّن، كُتلة مِن الألم مُنتصفه السرير، فتحت صنبور أحزانها، أرخت جَسدها، ابتلع هدوء المكان أنينها المُفجع، كحوتٍ جريح يلتوي ألمًا، وصوتُه محبوس لا يُغادر أرجاء المُحيط. نامت آخيرًا مُبللة بالخيبات، تنتظر الغَد لكي تَجف.
_ محطات الإنتظار التي تَطِلُ عليها مِن شُرف الوداع لمّ تأتيها أفواج الفرج بعد. الوصول شِبه مُستحيّل، والمُستحيّل قتل نفسه عندما أبصرها تبكي، المُحال شَد الأمتِعة، وقرر الرحيّل دون وداع، ولا شيء سوى المخاوف والخيبات التي تَرنو عليها مِن جميع الجِهات في إنتظار الإنهيار الكبيّر.
المزيد مِن الإنتّظار الذي يَهرم بروحِها..
_ "أسرعي وإلاّ سنتأخر" .. صوت تهاوى إليها مِن وراء الأروقة الخَشبيّة، لم تَرٌد متعمدة التروي، كم عدد الكلمات التي تفوهنا بها سَهوًا ووقعت كالمطرقة على ذوينا؟ تَصمت زهاء الدقيقة، تُحصي أوجاعها، خوفها القديّم مِن التجارب الجديّدة، الذكريات ماكِرة، تنقضُ عليك دون سابق إنذار، هي مشغولة بذاتِها، وحزم الأمتِعة التي تُحضرها في تَّأنّيٍ لرحلة طويّلة، تَمنتها كثيّرًا وأحبتها يومًا، لكنها الأن ..
ردت مرتيّن كالصدى "آتية .. آتية" صوتُ الباب، وصهيّل عجلات السيارة المُسرعة مُخلفة وراءها غُبار الرحيّل، وما أوجع الرحيّل دون وداع، دون كلام، ودموع تُعلن النهاية.
ثُم الصمت الطويل..
_ الطريق التُرابية، المُلتفة حول الجبل كالثُعبان، بعد الطُرق المُعبدة، تفوح مِنها رائحة الريّحان، يَمُدٌ المكان بشيء مِن السَّكيّنةِ والإلفة، دحرج السيّارة بتَمهُل، كي يَسنح لكليّهما الإستمتاع بالطبيّعة الخلابة، وشحن الأرواح التي خَفتت مُنذ ردح، تُلحق بهما سيارتيّن بنفس السُرعة، والإشتهاءات.
_ وصل الفوج آخيّرًا والشَمسٌ تُلملم آخر أطراف فُستانها الزاهي بالحُمرة، وتَسلتقي خلف هدوء الأمواج، هُناك في اللا مكان، وهُنا في القلوب المُتلاطمة، وطيّور النَورس كعادتها خائنة للعهود، تَهوى الرحيّل، إلاّ أنها قررت البقاء هذه المرة، لكنها حَتمًا سَتكسر صَمت الرِمال، وترحل. حيّنما تسأل أمواج المُحيط وهي تُلامس برفقٍ سطح الرمال، أيّن ذهبت؟ تنحازُ الرِمال جهة الصمت، الصَمتُ التام، ولا تَجني شيئًا سوى بُكاء الرِمال، تَرجعُ به إلى صديقاتِها خائبة، وتَعود ملئ بالتَرجي والتَمني، لتَنثُرها بيضاء على الشاطئ الحزين وتختبئ.
تَنتظر العودة!
_ أفرغت بمُساعدة رفيق دربها مَكنون السيّارة، بعدما أرخى الليلُ ستائرهُ، وبدأت ملائكةُ السماء بنثر حُبيبات الأُمنيات. تسنى للأزواج الثلاثة الحصول على الجو المناسب لتعميق ما قد تَلُف في زَحمة الحياة بمنظر الغروب الخلاب، وعشاءٍ دسم تطوقهُ الورودُ والموسيقى ..
بعد حمامٍ دافئ وطويل، أسدلت على جَسدها الصغيّر فُستانًا أبيض يُغطي مِساحاتها المسكونة بالرغبة، والتَّوق إلى شيء ما، ناقصة تَبحث عَمَّا يُكملُها، يُشعرها أنها إمرأة. وضعت الكثيّر مِن العِطر تحت عِقد الياسميّن، أخذت نَظرة فاحِصة، لا شيء معطوب، لكنها ما تزال تَشعُر بأنها ناقِصة.
_ تَقدمت بُخطى مُتقاربة، نحو مَمرٍ طويّل، تَحفهُ ورود كانون الثاني بعناية مُبالغةُ فيها، لكونها تَعشقها، إضاءة مُتدلية مِن السَقف، بخوارزمية معينة، وعبارات الحُب مَرسومة أينما دلفت ببصرها، وصلت نهاية الرِواق، كان ينتظر، مُبتسمًا، يحملُ المَزيد مِن الورود، كانون الثاني حَتمًا، يرنوها بعيونٍ زاهده، حَدائق النُعمان مرسومة على حواف فاهٍ مُربك، أُشَّرعتْ، وألجم جَمال المنظر حامِل الورود المسكيّن، تلعثم مِن شدة ذهوله. مع كُل خُطوة تَرفعُها نحوه، ينسى الكلِمات، ونفسه. وقفت أمامه، تَتكئ على الشعور اللذيذ الذي يسرى في كُل خلاياها، لا يَفصلُ بينهما سِوى الشهيق و الزفيّر، لم يستطع النُطق بكلمة، مد إليها بالباقة، وضعتها قُرب أرنبةٍ صغيّرة، رفع يدهُ اليُمنى في المِساحة الفاصلِة بينهما، لتضع يدها المُبللة داخِلها وتحتويها، إقتادها إلى الطاولة، سَحب الكُرسي، أجلسها، وسُرعان ما تقرفصت إلى الطاولة كالطِفلة.
_"عيدٌ زاوجٍ سَعيد حَبيّبتي"
أمسك يدها، موجهًا بصرهُ نحوها، رفعت رأسها، عيناها تَموجان بالدموع، كانت أشبه بالغيّمة على وشك الهطول. "خَمسُ سنواتٍ كأنها ثوانٍ لا غيّر، أشعر أنهُ كلُما مَرت بي السنيّن مَعكِ كُلما صرتُ يافعًا أكثر فأكثر" همست بحروفٍ غيّر مفهومة، لكن الإبتسامة ما زالت موجودة، بل وإزدادت إتساعًا، كحُفرة يأسها، هذه ما دَفعهُ ليكمل ويقول:
"لو أن الأمر بيدي لمحوتُ كُل تِلك السنيّن التي لم تكوني فيها، وصنعتُ من ذكريات سنيّني معك حياة"
حان مَوعد الهطول إذا، إنهمرت بروية أول قطرات الغيّث لتسقط على يدها التي تُمسك بها ثوبها، وبنفس القوة شَدت بيدها على كفه، ولم تتَكلم قط. مَد إليها المناديل، المُبللة بدموع العُشاق، ومكدسة بوعودهم التي لا تعرف المُستحيل.
_ ضرب على كفيّه مرتيّن، أصدر الباب صوتًا طروب، خُطى هادئة وسَلسة تقترب، صغيّرة تِلك الخطوات ومُنسقة للغاية، وقف صاحِبها يسارها، صانِعًا ظِلاً يُماثلهُ في الطول، وتحدث بصوتٍ طفولي ناعم لا يتعدى الخامِسة مِن العُمر:
"هل تَرغبيّن بالطعام البحري أم تُفضليّن اللحم"
شَعر بالخيّبة، بعدما ما فشل مرة أُخرى، فشل للمرة الرابِعة على التوالي.
_ كان الموقف كفيلًا بأن يُلامس رَصيّن الجوف، غَلُب إحساس النقص عليها مُجددًا، والذي فشلت كُل تِلك السعادة المصطنعة في رتقه، لتتحول كُل تِلك الهواجس الخاصة، إلى تعاسة عارمة كبلت البيت العائم في الخوف من البوح، إذ أن الصمت ما كان إلا ضماد الوجع، لذا هربت دون أن تَرُد!
"النسيانُ في حدّ ذاته يأخذُ مِن أرواحنا أكثر مِما تأخذه التجارب نفسُها."
Comments
Post a Comment