هموم الرحيل

 في كُلِ عامٍ تتجددُ مأساتي، ويُنيخ الحُزن بكامِل ثقلهِ عليَّ، فأجلسُ واجمًا عاجزًا عن التعبير بما يعتلجُ صدري.


أنا الذي لم تجمعني الظروف بكَ يومًا، ولم تسمح لنا الأجيال أن نلتقي صدفةً على الممشى العريض، لكُنت قد قابلتني بوجهِك الطلق وألقيتَ عليَّ زخاتٍ من الحُب من مَبسَمِك الندي "يا سلام عليك" فأردُ عليكَ متلهفًا "يا حبيبنا جوه عينيك عايش أنس" ثم أردف "ياما نَحلُم نحكي ليك عن المسافة ونشتهيك" لتهطُل عليَّ ثقلًا لن أقوى على تحمُله ضاحكًا تستنشقُ نشوة الإنتصار لتقول ليّ "أنتَ معانا في عُمق الخاطر" لتُجسر رهق المسافةِ بيننا، بصوتٍ مبحوح أنهكهُ السفر في المنافي والمرض الذي تكالب على ضفافك اليانعة ببطء حتى نضبتَ جسدًا ورفرفت روحك عاليًا.

لما تَرحلُ الملائكة على عجل؟ لما كُتب علينا أن نستلذ الرحيلُ المر دومًا؟ لما يجب علينا العيش والقلق كائنُ فينا؟ وأنت الذي طمأنتها بأن لا تخاف لأن "كُل الملايكة سُمر" لما الخوف وأنت الذي صدحت بأن "ما تتخوفي"؟

لم يُصبح الأمل رفيقًا يا مُصطفى، وتلك المُدن التي تمنيت أن يُغطيها الفرح صارت جدباء خاوية وتسرب الخوف رُغمًا عنها.

لم يكن الفن العامر بك ما جعلني أتوقُ لرؤيتكَ كُلما سمعتُك تقول "أنا في تصوري" بل الإنسانية التي لم تنفك تُنادي بيها دائمًا في المسارح، المرافئ، المجالسِ وفيك.

تركتنا الطيور إلى الأبد يا مُصطفى، تركتنا إلى بلادٍ لا يقتلون فيها أصوات المُغنين يا مُصطفى، رحلت بلا أمل للعودة، لتأخُذ معها هويتنا، أحلامنا، أفراحنا، دموع الحَبيبة وأنت يا صغير اليمامة.

اليوم تتذكرُك البلادُ كما لم تفعل من قبل، تتذكرُك وأنت الذي كُنت يومًا في جوفها ولفظتك في العراء، تتذكرُك الماعز التي ساعدتُها على قارعة الطريق، تتذكرُك السيدة التي لم تنفك تنظُر إلى شاربك ومحياكَ الدمث، تتذكرُك المطارات الحزينة، تتذكرُك الفاطِمات، تتذكرُك بيوت الجالوص وعمنا الحاج ودعجبنا، تتذكرُك الحَبيبة التي لم تَشغل أيّ منديل مُذ رحلت وما زالت حافظة للوصية "إذا مِتُ أُذكريني"
لكنك لم تَمُت يا صغير اليمامة، لم تَمُت ولم تُنسى !

مريمُ الأُخرى صارت عاقر بعدك ولم تُنجب إلا النَحيط على فراقك المُر، وتداعت مِن بعدك كُل أشكال الموسيقى الشجية التي تُربتُ بِلُطفٍ على قلوب رفقاءِك وتُخرجهم مِن نبض التعب.

كما يُقال دائمًا في الختام "الوداع يا نشوة الروح" لكن "لحظات الوداع أمثالي كيف يتحملا؟" لذا لن أقول وداعًا لإنسانًا لم يرحل عن دُنيايّ ومازال صوتهُ وعباراته تتردد في أرصفتي "دُنيا يا دُنيايّ" بل سأقول لك بأنيّ "لسه شايلك بيّني حايم"

لم أكن أعلم بأن المرء باستطاعته رثاء نفسه! هل كُنت على دراية برحيلك المفجع وأنت تتكئ على العود كاتكاء المحبوب على محبوبه؟

أم أنها الأحزان كانت غريبة ومذهلة؟
..

"أظنك عرفتي هموم الرحيل"


صحيّ الموت سلام ما يخشاكَ شر .. 🖤


Comments

Popular Posts