ذاكرة معطوبة

 "سلامٌ عليكم وعلينا سلام"  

تشابكت في دواخِله الحواس وهو يرهف مسامعهُ إلى الراديو الخشبي المنزوي في رُكنٍ قصيٍ من الباعة المقفرة التي كان يُطلق عليها في ما مضى منزل. لم يفهم شيئًا لكنه يتألم.  

فراشاتُ في السابق كانت ملونة، تعجُ المكان في صخبٍ من الحُسنِ والولِف، أشجارُ المحريب العطري يفوح مِنها رائحة اللحمِ المتقيح، تحيط بها ملابس رثة كانت لرجُلٍ زاهد يوزع الحلوى والابتسامة في وجوه العُفاة. 

 خرج يمشي على أطرف الخوف حذرًا مِن ما قد يقلق، يُنهي حياته إلى الأبد. تصفح الفراغ الذي يحيط به، أكوام الخرابِ والهدوء المخيف الذي يرجُ المكان، تنهشُ الطيور الجارحة السماء الملوث معلنةً فساد الأرض التي زرعتها يومًا أيادي أُناسُ كانت تُرضيهم حياة الكفاف، وكانوا يخافون الله ويخشون ما يفسد عليهم رغدهم وسلامهم. 

 آبارُ المياهِ يكتسي عذوبتها لون الدم، تعتلي قمتها أجسادُ نحيلة قد فارقتها أروحها على حين غِرة، ونامت نومتها الأخيرة، ولن تصحو حتى يُنفخُ الصفيرُ المدوي، لتستيقظ مذهولة ومتسائلة ما الذي قد جرى؟ مُعاث الملامح أدعج، المخاط يسيلُ على شِدْقيه، ترتسمُ على مقدمة وجهه نُدبة تجاورها مثيلاتُها في الجحم والاثر، ترمز لتفرده عن غيره مِن الأشخاص ومفخرة لبني جنسه. أيعقل لهذا قد قتل كل أخِلاّءه؟ 

في ليلة مثل لونه، كانت القرية تسكبُ رهق النهار في حلقة من الأُنس حول النار التي يتم اشعالها بضرب الحجار ببعضها، قطع الخُبز الكبيرة مصنوعة من عجن الموز، فوقها يوضع إدامُ مِن السمك أو اللحم المجفف، وشراب جوز الهند الذي يُنعش أرواحهم، ويدبُّ الحياة فيها، من بعد يومٍ كانت فيه نجمهُ السماء الحامية، تُصهد أبدانهم، وتضيف إليها مزيدًا مِن السواد والصلابة. السيدات فارعات القوام، صدورهن نصفُ عارية، يسدلن الجُلباب حول أحد الكتفين، يمرر على أجسادهن بطريقة مماثلة، وبألوانٍ تتماهى مع المحيط. يعملن كخلية النحل، في رقعة الأرض التي اتخذوها وطنًا، إذ تتراص كل البيوت الطينية المثلثة في شكلٍ عشوائي منظم، يجعلُ مِن الساحة الوسطى، مركزًا للمقايضة، وبر الحيوانات، الخزف الملون؛ الحِنطة، الشعير؛ البقوليات، الموز؛ العنب، القماش المغزول بعناية؛ ومنافعُ أخرى تصبُ في استمرارية الحياة.  

استلقى على ذاكرته المعطوبة، ومضات الماضي مشوشة تمامًا بالدخان الأسود الذي غطى السماء، وأصواتِ الرعب التي ملئت الأرجاء، كانت تأتيه بوتيرة مختلفة في كل مرة، أحيانًا تترأى إليه أنها من أعماقِ الأحراش، وأحيانًا يشعر بها ها هُنا، قلبه.  

في هزيع ليلةٍ دافئة، أمطرت السماء فلولاً حمراء، أفجعت سكون المكان وطغت على أمانه، قادمة مِن الملثمون الذين عاثوا في الأرض نهبًا وفي الناس تقتيلًا. هب من نومه مذعورًا يتحسس مواطئ السلام فيما سبق، وآثار الناس الذين تركوا السابلة، وركضوا، ركضوا في جميع الجهات لكن دون جدوى.  

اختبئ وراء المِحْراك، التقط بعيون مشدوهَ اقسى انواع التباريح، استُحلت النساء حتى صارت اجسادهن زابله، ثم قتلن، رجُل كان يوزع الضحكات قطع رأسه، صاحبه اقتيد إلى وحش مستطيل الشكل، له قوادم دائرية ينفث الدخان من مؤخرته، وضع خلف بابٍ يشبه عيدان البامبو مع من ماثلهُ في العمر، شنق شيخُ القرية وجميع من في داره، ثم رأى ناراً تحتضن القرية، لم يسبق له أن شاهدها قبلاً، لم يظن ان بإمكان الحجارة صنع نارٍ كهذه، تصاعدت حتى ثمار جوز الهند، وحجبت ضوء القمر. لا براح بأنهم شياطين؛ لأن الرقعة التي تكاثرت في أعوام، اخمدها هؤلاء بلمح البصر. من أين جاء هؤلاء؟ 

أصوات الصراخ ما تزال تعتلجُ صدره، رأسه وذاكرته المشوشة، أصوات القادمة التي ولجت إليهم بالدمار، واشياءهم التي تصدر أصواتًا ترعب أكثر من الوحدة. غادر الزوار، ولم يغادر ما خلفوه، اشياءهم؛ افعالهم الشنيعة، اصواتهم المرعبة؛ الحيوانات الغريبة التي تجري على عجلات دائرية، وملابسهم الغريبة والموت. لا شيء. هنا سوى الموت، الاحلام التي كان يناجي بها نفسه والسماء تلاشت، الحكايات، المسرات، والرغبة، جميعها احرقتها السماء وهؤلاء الدخلاء.  

وقف في وسط الساحة والشمس في كبد السماء، تلقي بأطرافها الصفراء الحارقة نحوه، صوتُ دويُّ عالي وصخب أحاط به، وقع أقدامٍ هرعة، الوحش الذي رآه يبتلع أخِلاّءهُ، رغباته، والوطن، يسرع في اتجاه، لم يتحرك البتة، لم يصرخ كما فعل الأخرون، لم يركض، تصلب الدم في عروقه، بُتر الإحساس، اقتربت الأصوات أكثر، لم يتحرك، اقتربت أكثر، لا خوف يسكنه، صنع أحد الدخلاء ظلاً فوق رأسه وتفوه "في واحد لسه هنا" بكلامٍ لم يفقه معناه ولا لهجتهُ. من أين جاء هؤلاء؟ لم يكن شيء في داخله سوى الانتقام.  

دون أدنى شعورٍ منهُ انحنى على ركبتيه، وضع كفيه وراء رأسه وهو يردد، كأنما يُرتلُ آياتٍ أو يصلِّ صلاة خاصة " سلامُ عليكم وعلينا سلام .. سلامُ عليكم وعلينا سلام"

Comments

Popular Posts