النُعاس

 "الوقت مبكرُ على الرحيل. ما زالت هنالك بعض الأمور العالقة في إنتظار حل عُقدها. والكثير للتعلم."
 - 

قالها شيخُ في العناية المكثفة متأثراً بنوبةٍ قلبية حادة كادت أن تؤدي بحياته.
 - لقد كُتب لك عُمراً جديد يا شيخ.
 - ومن قال بأن الأول قد محى يا ولدي، مجرد عثرة أخرى في الحياة، لا تعني النهاية. 
- الحمد لله على نجاتك، لا أحد ينجو من نوبة حادة كالتي أصابتك. 
- أنا نجوت أليس كذلك؟ 
- نعم، ولكن بأعجوبة.
- في النهاية نجوت، إذا هنالك شخصُ فعل، وعلى الأرجح أنه أنا، لكنني لستُ الوحيّد، لا أتكلم عن حالتي التشخيصية، أعني الأشخاص الذين قيّل لهم بأنهم ما كانوا لينجو، ونجو، أشخاص قيّل لهم بأن لن يحققوا أشياء عظيمة، وحققوها، في شتى بقاع الأرض، على مختلف ألوانهم، أديانهم، طريقة رؤيتهم للحياة، المعجزات تحدث يومياً، وفي كُل لحظة من حيواتنا، نحن الذين لا نُدرك قيمة الأشياء العظيمة التى تحدث لنا، لا نعطي الشكر الكافي، لا نشعُر بالإمتنان للنعم التي تحفنا، دائماً ما ننظر إلى الأشياء، نظرة ضيقة، أحادية. لو أنك أرهفت قليلاً للصوت الذي يتحدث داخلك كل يوم، لقلت أشياء خلاف التى تقولها في العادة، ولفعلت أشياء لم تفعلها من قبل، ولكنك لا تصغى، لا أحد منا يفعل، لذلك نحن على الدوام نشعر بالندم، ما نحسُّ به أول وهلة لا يمكن أن يكون مغلوطاً أبداً، إلاّ أننا نجتهد بقدر المستطاع محاولة التحكم في حياتنا، التي هي مكتوبة مُسبقاً، هي تتغيير دائماً، بالدُّعاء، ولا أعتقد أن بإمكان أي أحد التحكم في المتغير! السِر يكمُن في الايمان.
 صمتَ دقيقة يمعن السقف ثم أردف: 
- أتعلم أمراً، أنا سعيّدُ للغاية، كما لو كُنت حبيس قفصٍ ما، أشعر برغبة غامرة في الطيران. 
- ولما السعادة وانت في حالة مزرية كهذه؟ 
- سعيّدُ لأنني أخترتُ أن أكون سعيّداً هنا وفي هذه اللحظة بالضبط. 
- هل السعادة خيّار برأيك؟ 
- لا أعني بأنها خيّار بين إثنين مثلاً، بل أعني أنها مجموعة إختياراتِنا الضخمة، التي إخترناها في حياتنا سابقاً، وتلك التي نحن على وشك إختيارها، يشمل الأمر جميع القرارات التي اتخذناها، الأشخاص المقربين، الدراسة، المهنة، شريك الحياة، كلها خيارات إتخذنا قرارات بشأنها، لو تعلم أن جميع هذه الأشياء تحدد السعادة. 
- نعم صحيح، لكن هنالك بعض الأشياء المفروضة علينا، لم نملك الخيّار في منعها من إقتحام حياتنا.
- بلى تمتلك الخيّار، دائماً، التخلي يا بُني –رُغم بشاعة الشعور– إلا أنه الدواء طويل الأمد لجروح لحظية الوجع. تخلى عن الأشياء، الشخوص، التي تقف عقبة بينك وبيّن طريق سعادتك، ولتعلم أمراً مهماً، أن كُل من أبقى عليك في حياته، أنت جزء من سعادته. إذا لم تكُن السعادة خيّاراً مُتاحاً، فالرحيل. 
أتعلم يا بُني لقد قضيتُ وقتاً طويلاً من حياتي حزين، بددت الأيام التي كان مِن المفترض أن أكون فيها شاباً سعيداً، أعلم أن العُمر لم ولن يكون هاجساً أمام طلب السعادة، ولكنها الروح، تخفت وتنطفئ، من كثرة الحُزن. 
- ما هي الأشياء التي تبث فيك السعادة أخبرني؟ 
- طوال حياتي، لم أنتبه للأشياء التي تسعدني حقاً، كانت الأشياء التي تُزعجي في مرمى نظري دائماً، كُنت قليل الصبر، والشُكر، لم تكن الأيام قادرة على إسعادي بأشياءها اللحظية، شعرتُ دائماً بأن هنالك شيءُ ما ناقص، لم يكتمل في نظري، ولن يكتمل على حد تصوري. بحثي المضني عن سعادة كاملة باء بالفشل، لاشئ يكتمل ما لم ترضى. 
- هل أنت راضٍ الأن، أعني لقد قلت بأنك سعيد؟ 
- لا أظن بأنني راضٍ كفاية بعد، هنالك جزء كبير مني يُنازع الأمر، الحقيقة الكامنة فيّ كما تعلم، حزينة، وأن الأمر مخزون سنيّن، إن بوسع حادثٍ كهذا تغييره قليلاً، لكن لا يمكن إزالته تماماً، الإنسان لا يُصغي، على الرغم مِن أنه يطمح أن يحصل على أشياء كاملة، لكنهُ لا يُصغي، إن هذا ما يُدعى التناقض، هو ما يجعل الحقيقة شهية وكاملة عند الوصول، هل شعرت يوماً بالتناقض؟ 
- ليس أكثر مما شعرت اليوم! 
- أنت إذا إنسان صادق، وسوي. إثنان فقط لا ينتابهما التناقض، المتعجرف والفارغ، الأول ينظر إلى أن رأيه دائماً صحيح، لذا لم يسمع أبداً بالصوت الآخر بداخلة، وهذا الثاني لا أصوات في داخله كي تحدث جلبة، الخِواء نقمة تُفقر الروح. الشعور بالتناقض هو ما يجعل الحقيقة شهية وكاملة كما قُلت، إذا لم تُجرب نقيض الشعور حينها سيكون ما تَشعُر به بلا طعم. الأن أشعر أنني إنسانُ كامل، لقد أرتكبت الكثير مِن الذنوب، ورجوت الله الغفران، وأذنبتٌ مرة أُخرى، إجترحت أخطاء تجاه من أُحب، أعتذرت، وأخطئتُ مرةً أُخرى، وقعت في الحُب، وكرهت أيضاً، كرهت نفسي كثيراً، والناس أقل، ضحكت بشغف، وبكيت بحُرقة، غمرتني السعادة ثَمة، وألتحفني الحُزن ردحاً، إستنشقت جميع ملذات الحياة، وأعتقد أنهُ حان وقت الرحيل، أريد أن أنام، أنا مُتعب للغاية، أظنُ أنني سأنام للأبد. 

Comments

Popular Posts