آذار / مارس


آذار/ مارس حيث بدأ كل شيء وانتهى.

إن الأشياء لا تبدو مألوفة، السَّواقي تدور بلا فائدة، الغيوم صماء لا تُحدث صيباً، النيل يلتهم أبنائه بنهمٍ شديد، النجوم ليست بنجوم، الرياح عبثاً تعصف من جميع الإتجاهات، ضجيج في جميع أرجاء المكان، في اللامكان، في القلوب، فيّ أنا بالذات، شرود و الكثير منه وما يزال الحُزن يلتهم ما تبقى مني . 
-
سألني الأستاذ دون سابق إنذار: 
هل يبقى الودُّ بعد الفراق؟ 
الحُب أم الودُّ أستاذي الجليل؟
حدثنْا عن الحُب إذا تكرمت !
* امأتُ برأسي صحيح .

جميع من همّ في الصف ينظرون إليّ بغرابة، في إنتظار أن أشرح أكثر، لكن لما أنا دون الأخرين، هل يعلمون قصتي؟ هل يبدو العشق في محياي جلياً؟
قطع الأستاذ حبل خيالي قائلاً :
أرجوك أخبرنا، إشرح وجهة نظرك أكثر!
ليس لدي ما أقول، قلتا ذلك لأنني شعرت بأنه لا يمكننا الحديث عنهما دون ذكر الأخر، وفي العادة أؤمن بما أشعر .
إذاً فسر لنا شعورك!
إنه لأمرُ عسير يا أستاذ، بعض الأشياء لا نستطيع وصفها بالكلمات، بالأخص عندما نتحدث عن شيء عظيم مثل الحُب .
لا بأس تكلم و سنحاول فهمك، أو الشعور بك هيّا!
كما قلت إنه لامرُ عسير لكن ساشرح الأمر ببساطة. إذا حاولنا فصل الحُب عن الودُّ لوجدنا الفراغ، اللاشئ ، اللاحُب ، اللاوجود، الودُّ مرحلة، أو فنقل أنه درجة مِن درجات الحُب العليّة في قول الله تعالى : "وجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةٌ ورَحْمَة" إذا أسمى درجات الحُب هو الودُّ يا أستاذ .
اما الحُب فهو شئ عظيم لا يمر على الإنسان سوى مرةً واحدة في العُمر، وإن كذب قولي، السبب وراء أيماني هذا، أنه يستصعب على المرء إن يعطي كُل ما يملكه مرة أُخرى، من بعد أن يمنح كامل حواسه، مشاعره، وقته، وعمره، وينكسر قلبه جراء الحُب، لابُد ومن أن يحتفظ بشئ منه له، الثقة على الأرجح، إذا تلاشي الحُب كعلاقة تكامُلية. بمعني ؟
خذني أنا على سبيل المثال ، عندما وقعت في الحُب، يمكن القول بأنني وقعت فعلياً ولم أستطع النهوض حتى وقتنا هذا، دعني أخبرك شيئاً عن الحُب يا أستاذ، هو الملاذ قبل كل شيء، النوته الموسيقية التي تحمل جوارحنا إلى أعالى الجنان، النور يا أستاذ وليس أخراً هو الوطن. لا تستطيع إنكار بأنني أبدو مشرداً، بائساً يطق الحُزن شراراً مِن عينيه، والسبب هو الحُب. قبل أن تدخل حياتي كنت هكذا كما أبدو الأن، تقصد مشرداً؟ نعم ولكن وجه الإختلاف بأنني في ذلك الوقت لم أجد الحُب. والحقيقة هي أن الحُب هو من يجدنا، من نخدع ؟! لو حزمت حقائبك ورحلت بحثاً عن الحُب لن تجده، ستعود هرم القلب تطأطأ كبريائك حسرة، و تكتشف أن الحَبيبة هي أقرب شخصٍ لك كان يختبئ وراء قناع الصداقة. لكن هذا لا يمنع بأن تبحث عن الحُب، الرحلة شيقة وتستحق المخاطرة، الإنتظار مدقع، مرير، لا تنتظر، الوقت لا ينتظر، ربما تتزوج وتنجب أطفالاً وتهرمّ وتموت وأنت لم تُحب يوماً، سيتبدل الحُب بالعطف والحنان و يختفي خلف شلال المسؤوليات والمهام .
سيقال لك بأن من أفنى كامل عمرهُ بجانبك لابد ومن أنه يُحبك، كلا إنه لا يفعل، ربما يفعل، على الأرجح لا. الكثير من الناس تسعى جاهده بأن تحافظ على الودّ في العلاقة، كما قلت بأنها مرحلة منفصلة عن الحُب، وأنا أتكلم عن الحُب، الحُب يتمثل في التضحيات، الحُب دون خوف لا يُسمى حُباً، عندما لا تخاف أن تفقد من تُحب أنت لم تُحبَ يوماً، الخوف هو ما يجعل الحُب شهياً ورائع .
- هل ما زالت هناك، أعني هل تحبها؟
- إن من يُحب فإن من المستحيّل عليه أن يكره يوماً، حتى وإن إجتمعت جميع الأسباب للكُره، فإن العاشق دائماً ما يجد خِصلة حميّدة تدفعهُ لإثارة الحُب مرة أخرى، الحُب لا يفنى، ولكنه يخمد من عدم الرغبة، والرغبة تُخمدها كثره الإنتظار، وبالإنتظار يُصيبك الوهن، وإذا أصابك الوهن، زعُنت رغبتك على الرحيل، وأعني به كُل شيء. وكذلك الودُّ لا يفنى، ولا يندثر، لا يصيبه شئ على الإطلاق.
عندما تعرت أمامي بحبها لي، وتجردت من كامل مشاعرها ووضعتها أمامي وددت لو أنني لم أتعرف عليها يوماً، خفت يا أستاذ و الخوف هو الحُب، خفت أن أفقدها، كانت أعزّ صديقة لي، الحقيقة هي أنني لم أسمح لأي شخصٍ بأن يقترب مني كما الحال معها، كان الأمر خيالياً، في تلك اللحظة مَرّ عليّ شريطُ ما عشناه سوياً كأنما هو ليلة قمرية تزيين النجوم خِمارها، وهي أنيسة الليلة و أعظم ما فيها، لكن عندما أتى الصباح أرادت فجأة أن تُصبح الحَبيبة، إن لأمرُ مخيف، لم يكن صباحاً جميلاً، كامل جسدي ارتعش كأنني مصابُ بالحُمى، لكن سرعان ما دثرتني، طمئنت قلبي حينما أمسكت أطرافي المرتعشة، وثبتت مُقلتيها على روحي، تجاوزت نظرتها تِلك عيناي، ووصلت روحي مباشرة، لترى خوفي رابِطاً بيّن الضلوع، أطلقت صراحهُ وهي تقول متعمدة الأسلوب العنيف: "أحبُك رُغم أنفك" ورحلت.
تركتني أهذي واُردد كمن يحفظ نصاً "يا ليتني خُلقتُ حجراً ولم أكن بشراً" لكن والله وتالله لو أنها نظرت نظرتها تلك لجبل، لصار غباراً من سحر وفِتنه عينيها.
لو سألتني قبلاً، قبل إنطفائي العظيم، لكنت أول شخصٍ يتلهفُ للإجابة، كنت سأقول نعم، وأتلو عليك بعض كلِماتي، رواياتي، وقصائدي التي وقفت صامته أمام عينيها.
لكن رُغم كل شيء الحُب يبقى يا أستاذ.


"تخليّداً لذكرى الجميلة صاحبة خَندق أحلامي"

Comments

Popular Posts